فصل: قال ابن القيم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن القيم:

قال تعالى: {وأما بنعمة ربك فحدث}
وفي هذا التحديث المأمور به قولان:
أحدهما: أنه ذكر النعمة والإخبار بها وقوله: أنعم الله على بكذا وكذا قال مقاتل: يعني اشكر ما ذكر من النعم عليك في هذه السورة: من جبر اليتيم والهدى بعد الضلال والإغناء بعد العيلة والتحدث بنعمة الله شكر كما في حديث جابر مرفوعا: «من صنع إليه معروف فليجز به فإن لم يجد ما يجزي به فليثن فإنه إذا أثنى عليه فقد شكره وإن كتمه فقد كفره ومن تحلى بما لم يعط كان كلابس ثوبي زور»
فذكر أقسام الخلق الثلاثة: شاكر النعمة المثني بها والجاحد لها والكاتم لها والمظهر أنه من أهلها وليس من أهلها فهو متحل بما لم يعطه وفي أثر آخر مرفوع: من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله والتحدث بنعمة الله شكر وتركه كفر والجماعة رحمة والفرقة عذاب والقول.
الثاني: أن التحدث بالنعمة المأمور به في هذه الآية: هو الدعوة إلى الله وتبليغ رسالته وتعليم الأمة قال مجاهد: هي النبوة قال الزجاج: أي بلغ ما أرسلت به وحدث بالنبوة التي آتاك الله وقال الكلبي: هو القرآن أمره أن يقرأه والصواب: أنه يعم النوعين إذ كل منهما نعمة مأمور بشكرها والتحدث بها وإظهارها من شكرها قوله: وهو أيضا من سبل العامة يا ليت الشيخ صان كتابه عن هذا التعليل إذ جعل نصف الإسلام والإيمان من أضعف السبل بل الشكر سبيل رسل الله وأنبيائه صلى الله عليهم وسلم أجمعين أخص خلقه وأقربهم إليه ويا عجبا! أي مقام أرفع من الشكر الذي يندرج فيه جميع مقامات الإيمان حتى المحبة والرضى والتوكل وغيرها فإن الشكر لا يصح إلا بعد حصولها وتالله ليس لخواص أولياء الله وأهل القرب منه سبيل أرفع من الشكر ولا أعلى ولكن الشيخ وأصحاب الفناء كلهم يرون أن فوق هذا مقاما أجل منه وأعلى لأن الشكر عندهم يتضمن نوع دعوى وأنه شكر الحق على إنعامه ففي الشاكر بقية من بقايا رسمه لم يتخلص عنها ويفرغ منها فلو فني عنها بتحققه أن الحق سبحانه هو الذي شكر نفسه بنفسه وأن من لم يكن كيف يشكر من لم يزل علم أن الشكر من منازل العامة ولو أن السلطان كسا عبدا من عبيده ثوبا من ثيابه فأخذ يشكر السلطان على ذلك: لعد مخطئا مسيئا للأدب فإنه مدع بذلك مكافأة السلطان بشكره فإن الشكر مكافأة والعبد أصغر قدرا من المكافأة والشهود للحقيقة يقتضي اتحاد نسبة الأخذ والعطاء ورجوعها إلى وصف المعطي وقوته فالخاصة يسقط عندهم الشكر بالشهود وفي حقهم ما هو أعلى منه هذا غاية تقرير كلامهم وكسوته أحسن عبارة لئلا يتعدى عليهم بسوء التعبير الموجب للتنفير ونحن معنا العصمة النافعة: أن كل أحد غير المعصوم فمأخوذ من قوله ومتروك وكل سبيل لا يوافق سبيله فمهجور غير مسلوك. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضالا فهدى}.
هذه الآية الكريمة يوهم ظاهرها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ضالا قبل الوحي مع أن قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} يدل على أنه صلى الله عليه وسلم فطر على هذا الدين الحنيف ومعلوم أنه لم يهوده أبواه ولم ينصراه ولم يمجساه بل لم يزل باقيا علي الفطرة حتى بعثه الله رسولا ويدل لذلك ما ثبت من أن أول نزول الوحي كان وهو يتعبد في غار حراء فذلك التعبد قبل نزول الوحي دليل على البقاء على الفطرة.
والجواب أن معنى قوله: {ضالا فهدى} أي غافلا عما تعلمه الآن من الشرائع وأسرار علوم الدين التي لا تعلم بالفطرة ولا بالعقل وإنما تعلم بالوحي فهداك إلى ذلك بما أوحى إليك فمعنى الضلال على هذا القول الذهاب من العلم ومنه بهذا المعنى قوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ أحداهُمَا فَتُذَكِّرَ أحداهُمَا الأُخْرَى} وقوله: {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى}.
وقوله: {قالوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ}.
وقول الشاعر:
وتظن سلمى أنني أبغي بها ** بدلا أراها في الضلال تهيم

ويدل لهذا قوله تعالى: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} لأن المراد بالإيمان شرائع دين الإسلام وقوله: {وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ}.
وقوله: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ}.
وقوله: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ}.
وقيل المراد بقوله ضالا.
ذهابه وهو صغير في شعاب مكة وقيل ذهابه في سفره إلى الشام والقول الأول هو الصحيح والله تعالى أعلم ونسبة العلم إلى الله أسلم. اهـ.

.قال الفخر:

قصة سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم:
وفيها شُبَه:
الأولى: تمسكوا بقوله تعالى: {ووجدك ضالا فهدى}.
الجواب: أن الضلال هو الذهاب والانصراف ولابد من أمر يكون منصرفا عنه وهو غير مذكور، والخبر ان بغير ما يوافق الدليل وهو أمور أربعة:
الأول: وجدك ضالا عن النبوة فهداك إليها ويؤكده قوله تعالى: {ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الإيمان}.
الثاني: {وجدك ضالا} عن المعيشة وطريق الكسب.
الثالث: {وجدك ضالا} في زمان الصبى في بعض المفاوز.
الرابع: {وجدك ضالا} أي مضلولا عنه في قوم لا يعرفون حقك فهداهم إلى معرفتك كما يقال: فلان ضال في قومه إذا كان مضلولا عنه.
الشبهة الثانية: تمسكوا بقوله تعالى. {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبى إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته} قالوا: إن ظاهر الآية يدل على أن الشيطان ملق في قراءة الأنبياء ما يؤدى إلى الشبهة، فإذا جوزنا ذلك ارتفع الوثوق، روى أنه عليه الصلاة والسلام شق عليه ما رأى من مباعدتهم عما جاءهم به فتمنى في نفسه أن يأتيه من الله تعالى ما يقارب بينه وبين قومه، وذلك لحرصه على إيمانهم، فجلس ذات يوم في ناد من أندية قريش كثير أهله، وأحب يومئذ أن لا يأتيه شئ من الله فينفروا عنه، وتمنى ذلك فأنزل الله تعالى: {والنجم إذا هوى} فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ {أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الاخرى} ألقى الشيطان على لسانه ما كان يحدث به نفسه ويتمناه (تلك الغرانيق العلى وان شفاعتهن لترنجى) فلما سمعت قريش ذلك فرحوا ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءته فقرأ السورة كلها وسجد في آخرها فسجد المسلمون وسجد جميع من في المسجد من المشركين. فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد إلا الوليد ابن المغيرة وأبو أحيحة سعيد بن العاص، فانهما أخذا حفنة من البطحاء ورفعاها إلى جبهتهما وسجدا عليها لانهما كانا شيخين كبيرين فلما يستطيعا السجود، وتفرقت قريش وقد سرهم ما سمعوا وقالوا: قد ذكر محمد عليه الصلاة والسلام آلهتنا بأحسن الذكر. فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل عليه السلام وقال: ما ذا صنعت؟ تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله، وقلت ما لم أقل لك؟! فخزن رسول الله صلى الله عليه وسلم حزنا شديدا وخاف من الله خوفا كثيرا فأنزل الله هذه الآية.
وقال القسطلانى في شرح البخاري: وقد طعن في هذه القصة وسندها غير واحد من الائمة حتى قال ابن إسحق- وقد سئل عنها- هي من وضع الزنادقة، وقال القاضى عياض: إن هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة ولا رواه أحد بسند متصل. وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب المتلقفون عن الصحف كل صحيح وسقيم.
ونقل عن أبى بكر بن العربي الأمام المالكى: إن جميع ما ورد في هذه القصة لا أصل له.
قال القاضى: والذى ورد في الصحيح «أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ (والنجم) وهو بمكة فسجد معه المسلمون والمشركون والجن والانس» ثم قال: وقد قامت الحجة وأجمعت الامة على عصمته صلى الله عليه وسلم ونزاهته عن هذه الرذيلة، إما من تمنيه أن ينزل عليه مثل هذا من مدح آلهة غير الله، وهو كفر، أو أن يتسود عليه الشيطان ويشبه عليه القرآن حتى يجعل فيه ما ليس منه ويعتقد النبي صلى الله عليه وسلم أن من القرآن ما ليس منه حتى يفهمه جبريل. وذلك كله ممتنع في حقه صلى الله عليه وسلم، أو يقول النبي صلى الله عليه وسلم ذلك من قبل نفسه عمدا- وذلك كفر- أو سهوا، وهو معصوم من هذا كله، وقد قررنا بالبراهين والاجماع عصمته صلى الله عليه وسلم من جريان الكفر على لسانه أو قلبه لا عمدا ولا سهوا أو أن يشبه عليه ما يلقيه الملك بما يلقى الشيطان أو يكون للشيطان عليه سبيل أو أن يتقول على الله ما لم ينزل لا عمدا ولا سهوا.
الجواب: الذي يدل على أنه عليه السلام ما غير وما بدل وجوه خمسة:
الأول: قوله تعالى: {ولو تقول علينا بعض الاقاويل لاخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين}.
الثاني: {قل ما يكون لى أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع الاما يوحى إلى}.
الثالث: {وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا اليك لتفتري علينا غيره وإذا لا تخذوك خليلا ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا}.
الرابع: {كذلك لنثبت به فؤادك}.
الخامس: قوله: {سنقر ئك فلا تنسى} وإذا ثبت ما ذكرناه فلنشرع في الجواب عن الشبهة فنقول: التمنى: جاء في اللغة لامرين:
أحدهما: تمنى القلب.
والثانى: التلاوة قال الله تعالى: {ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أمانى} أي إلا قراءة لأن الأمي لا يعلم القرآن من المصحف وإنما يعلمه قراءة، وقال حسان:
تمنى كتاب الله أول ليلة ** وآخرها لاقى حمام المقادر

قيل: إنما سميت القراءة أمنية لأن القارئ إذا انتهى إلى آية عذاب تمنى ان لا يبتلى به.
وقيل: أخذ من التقدير لأن التالى مقدر للحروف يذكرها شيئا فشيئا والتمنى التقدير، منى الله خيرا أي قدره * إذا عرف ذلك فنقول: من المفسرين من حمل الآية على تمنى القلب، والمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم متى تمنى بقلبه بعض ما يتمناه من الامور يوسوس الشيطان إليه بالباطل ويدعوه إلى ما لا ينبغى، ثم إن الله تعالى ينسخ ذلك ويبطله ويأتيه بما يرشده إلى ترك الالتفات إلى وسوسته. وهذا ضعيف لأنه لو كان كذلك لم يكن ما يخطر بباله صلى الله عليه وسلم فتنة للكفار، وذلك يبطله قوله تعالى: {ليجعل ما يلقى الشيطان فتنة للذين في قلوبهم} الآية: فثبت ان المراد بالتمني القراءة * ثم اختلف الذاهبون إلى هذا التأويل على وجوه ستة:
الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتكلم بذلك ولا تكلم الشيطان به أيضا، ولكنه عليه الصلاة والسلام لما قرأ سورة {والنجم إذا هوى} اشتبه الأمر على الكفار فحسبوا بعض ألفاظ ما قرأه (تلك الغرانيق العلى وان شفاعتهن لترنجى) وذلك على حسب ما جرت العادة من توهم بعض الكلمات على غير ما يقال، وهذا فاسد لوجوه ثلاثة:
الأول: ان التوهم في مثل ذلك إنما يصح فيها قد جرت العادة بسماعه، فأما غير المسموع فلا يقع فيه ذلك.
الثاني: انه لو كان كذلك لوقع هذا التوهم لبعض السامعين دون البعض، فان العادة مانعة من اتفاق الجمع العظيم في الساعة الواحدة على خيال فاسد في المحسوسات.
الثالث: لو كان كذلك لم يكن ذلك مضافا إلى الشيطان.
الوجه الثاني: أن يكون عليه الصلاة والسلام تكلم بذلك إما عامدا أو ساهيا. أما العمد فغير جائز. لأنه تخليط في الوحى. وذلك يوجب زوال الثقة عن كل ما جاء به.
فإن قلت: لعله قد ذكر ذلك استفهاما على سبيل الانكار؟ قلت: هب أنه كذلك لكن قراءته في أثناء قراءة القرآن مع كونه على ذلك الوزن توهم كونه منه، فيعود المحذور المذكور. أما السهو فغير جائز أيضا لأنه لو جاز وقوع السهو هاهنا لجاز في غيره وحينئذ ترتفع الثقة بالشرع. ولان الساهي لا يجوز أن يقع منه مثل هذه الألفاظ مطابقة لوزن هذه السورة وطريقتها ومعناها. فانا نعلم بالضرورة أن واحدًا لو أنشد قصيدة لما جاز أن يسهو حتى يتفق فيه بيت شعر في وزنها ومعناها وطريقتها.
الثالث: أن يكون الشيطان أجبر النبي صلى الله عليه وآله على التكلم وهذا أيضا فاسد لوجوه ثلاثة: الأول: أن الشيطان لو قدر على ذلك لوجب في القياس أن يزل الشيطان ولجاز في اكثر منا يتكلم به الواحد منا ان يكون ذلك بإجبار الشيطان.
الثاني: أن الشيطان لو تمكن من إجبار النبي عليه الصلاة والسلام على ذلك لا رتفع الايمان عن الوحى لقيام هذا الاحتمال.
الثالث: قوله تعالى حاكيا عن الشيطان {وما كان لى عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم} الآية وقال تعالى: {إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا} الآيتان. وقال: {إلا عبادك منهم المخلصين} فاعترف بأنه لا سبيل له عليهم.
الرابع: أن يكون ذلك الكلام كلام الشيطان وذلك بأن يلفظ بكلام من تلقاء نفسه في درج تلك التلاوة في بعض وقفاته ليظن أنه من جنس الكلام المسموع منه عليه السلام وهو غير ممتنع لأنه لا خلاف أن الجن والشياطين متكلمون فلا يمتنع أن يسمع الشيطان من غير أن يرى صورته فإذا سمع كلامه في أثناء كلام آخر لم يبعد أن يظن السامعون كون ذينك الكلامين من ذلك الشخص المبصر ثم هذا لا يكون قادحا في النبوة لما لم يكن فعلا للنبى.
ولقائل أن يقول: إذا جوز تم أن يتكلم الشيطان في أثناء كلام الرسول عليه الصلاة والسلام بما يشتبه على كل السامعين حتى يظنوه كلاما لرسول الله صلى الله عليه وسلم بقى هذا الاحتمال في كل ما يتكلم به الرسول عليه الصلاة والسلام فتفضى إلى ارتفاع الوثوق عن كل الشرع.
الجواب: ان ذلك الاحتمال قائم، ولكنه لو وقع لوجب في حكمة الله تعالى أن يشرح الحال فيه كما في هذه الواقعة ازالة للتلبيس.
الخامس: أن المتكلم بذلك بعض الكفرة، فانه عليه الصلاة والسلام لما انتهى من قراءة هذه السورة إلى هذا الموضع وذكر أسماء آلهتهم وقد علموا من عادته أنه يعيبها، فقال بعض من حضر من الكفار: (تلك الغرانيق العلا) فاشتبه على القوم، لأنهم كانوا يلغطون عند قراءته ويكثرون من الكلام طلبا لتغليطه واخفاء قراءته. وممكن أن يكون أيضا في الصلاة لانهم كانوا يقربون منه في حال الصلاة ويسمعون قراءته ويلغون فيها، وقيل: انه عليه الصلاة والسلام كان إذا تلا القرآن على قريش توقف في فصول الآيات، فألقى بعض الحاضرين ذلك الكلام في تلك الواقعات فتوهم القوم أنه من قراءته عليه الصلاة والسلام ثم أضاف الله ذلك إلى الشيطان لأنه بوسوسته حصل، أو لأنه جعل ذلك المتكلم شيطانا.
السادس: أن المراد بالغرانيق الملائكة وقد كان ذلك قرأنا منزلا في وصف الملائكة، فلما توهم المشركون أنه يريد آلهتهم نسخ الله تلاوته.
الشبهة الثالثة: تمسكوا بقوله تعالى: {وإذ تقول للذى أنعم الله عليه} الآية، روى أنه عليه الصلاة والسلام رأى زينب بنت جحش بعد ما زوجها من زيد فهويها. فلما حضر زيد لطلاقها أخفى في نفسه عزمه على نكاحها بعده لهواه لها فعاتبه عليه بقوله: {وتخفى في نفسك ما الله مبديه} الآية. الجواب من أربعة وجوه:
أحدها: الذي يدل عليه أنه لم يصدر من الرسول في هذه الواقعة مذمة، ولا عاتبه الله على شئ منه، ولا ذكر أنه عصى وأخطأ. ولا ذكر استغفار النبي منه، ولا أنه اعترف على نفسه مخطئا، وأنه لو صدر عنه زلة لو جد من ذلك شئ كما في سائر الأنبياء عليهم السلام متى صدرت عنهم زلة أو ترك مندوب وجد منه ما ذكرناه.
وثانيها: أنه ذكر في القصة أنه ليس على النبي من حرج فيما فرض الله له، وهذا تصريح بأنه لم يصدر منه ذنب البته.
وثالثها: أنه تعالى إنما زوجه إياها كيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواجهم أدعيائهم إذا قضوا منهن. وطرا، ولم يقل: إنى فعلت ذلك لاجل عشقك.
ورابعها: قوله تعالى: {زوجناكها} ولو حصل في ذلك سوء لكان قدحا في الله تعالى. فثبت بهذه الوجوه أنه لم يصدر منه ذنب البتة في الواقعة.
بقى قوله تعالى: {وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه} فنقول: ذكر المحققون فيه وجوها اربعة:
الأول أن الله تعالى لما أراد نسخ ما كان في الجاهلية من تحريم أزواج الادعياء أوحى الله ان زيدا- وهو دعى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلق زوجته فتزوج أنت بها. فلما حضر زيد ليطلقها أشفق رسول الله صلى الله عليه واله وسلم من أنه لو طلقها للزمه التزوج بها فيصير بذلك سببا لسوء كلام المنافقين فيه فقال له {أمسك عليك زوجك} واخفى في نفسه عزمه على نكاحها بعد طلاقه اياها وهذا التأويل هو المطابق لقوله تعالى: {فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها} فثتب أن العلة في أمره بنكاحها ما ذكرناه من نسخ السنة المتقدمة.
الثاني: أن زيدا لما خاصم زوجته زينب، وهى ابنة عمة النبي عليه الصلاة والسلام وأشرف على طلاقها أخبر النبي صلى الله عليه وسلم انه طلقها زيد تزوجها من حيث إنها كانت ابنة عمته، وكان يحب ضمها إلى نفسه، كما يحب أحدنا ضم قرأباته إليه حتى لا ينالهم ضرر، الا أنه لم يظهر ذلك خوفا من ألسنة المنافقين فالله تعالى عاتبه في التفات قلبه إلى الناس فقال: {وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه} الثالث: أن زيدا لما نكح زينب وجدها ذات جمال وعفة وقوة وعقل وحسن خدمة فبدا له أن ينزل عنها لينكحها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما رآها صالحة لصحبته خدمة له منه وقربة إلى الله تعالى بايثار رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسه في حظ مباح. فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرض عليه الأمر ولم يكن ذلك منكرا عنده عليه الصلاة والسلام غير ان زيدا تبناه النبي عليه الصلاة والسلام وكان التزوج بامرأته محرما في الجاهلية، فعلم أنه لو نكحها أطالوا ألسنتهم فيه وكانوا على قرب عهد من السلام يحترزون عن مثل هذه الامور، فامتنع النبي صلى الله عليه وآله عن نكاحها وقال له {أمسك عليك زوجك} مع ما في قلبه من الرضا حذرا عما ذكرناه فنزلت هذه الآية: {وتخفى في نفسك ما الله مبديه} يعنى من إضمار الرضى {وتخشى الناس} يعنى تستحى منهم أن يقولوا نكح زوجة ابنه {والله أحق أن تخشاه} في اظهار أمر غير ما تضمره.
الرابع: أن زينب طمعت في اول أمرها أن يتزوج بها رسول الله صلى الله عليه وآله فلما خطبها الرسول لزيد شق ذلك عليها وعلى أخيها وأمها، حتى نزل قوله تعالى: {ما كان لمؤمن ولا مؤمنة} الآية فعند ذلك انقادوا كرها، فلما بنى بها زيد لم تساعده ونشزت عنه لاستحكام طمعها في رسول الله صلى الله عليه وسلم واستحقارها زيدا، فشكاها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {أمسك عليك زوجك} وأخفى في نفسه استحكام طمعها فيه، لأنه عليه الصلاة والسلام لو ذكر ذلك لزيد لتنغصت عليه تلك النعمة، ولقال المنافقون إنه إنما قال ذلك طمعا في تلك المرأة. فهذه وجوه سوى ما ذكره الطاعنون في انبياء الله تعالى ورسله وكلها محتمل.
فإن قلت: هب أن الأمر كذلك، ولكن قوله تعالى: {وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه} يدل على أن ذلك الاخفاء ما كان جائزا له.
قلت: أكثر ما فيه أنه أخفى ذلك إتقاءا لسوء كلام المنافقين ولو أنه أظهره وتحمل سوء مقالتهم لكان أكثر ثوابا فيه، فيرجع حاصله إلى ترك الأولى والافضل فليس ذلك من الذنب في شئ، فأما الذين يذكرون من أنه عشقها فهو من باب الآحاد والأولى تنزيه منصب الأنبياء عن مثله لاسيما والقرآن لا يدل عليه البتة. ثم على تقدير الصحة ففيها روايتان: منهم من يقول بأنه عليه الصلاة والسلام لما رآها وعشقها حرمت على زيد. وهذا قطعا غير صحيح لأنه لو كان كذلك لكان أمره لزيد بامساكها أمرا بالزنا ولكان وصفه إياها بكونها زوجه كذبا وهذان الامران لا يليقان بالمسلمين فضلا عن أفضل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. ومنهم من لا يقول بحرمتها على زوجها. ولكن يقول يجب على الزوج تطليقها والنزول عنها، وقالوا: والمعنى فيه امتحانا للزوج في إيمانه بتكليف النزول عن زوجته طلبا لرضى الله تعالى ورضى رسوله صلى الله عليه وسلم. وفيه أيضا ابتلاء النبي عليه الصلاة والسلام وتكليفه الحذر عن الاعين لأن حفظ النظر أشق على النفس فقيل له ان لم تحفظ نظرك فربما أبصرت شيئا فاشتهيته لأن الشهوة ليست مقدورة للبشر. وإذا اشتهيته وجب على الزوج طلاقها والنزول عنها فان أخبرته بذلك تعرضت لسوء المقالة وإن كتمته صرت خائنا في الوحى، فلاجل الاحتراز عن هذه التوابع كان النبي صلى الله عليه وآله يبالغ في حفظ النظر وذلك من أشق التكاليف. فهذا ما قيل في هذا الباب.
الشبهة الرابعة: تمسكوا بقوله تعالى: {ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض} الآيتان. والاستدلال من ثلاثة أوجه:
الأول: قوله تعالى: {ما كان لنبى أن يكون له أسرى} وذلك يقتضى أن يكون استبقاء الاسرى محرما.
الثاني: قوله: {تريدون عرض الدنيا} وذلك مذكور في معرض الذم.
الثالث: قوله تعالى: {لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم}.
الجواب: الذي يدل على براءة منصب الأنبياء في هذه الواقعة عن كل ما لا ينبغى وجوه:
الأول: أنه إما أن يكون قد أوحى له في جواز الاسر وخطر إليه شئ، أو ما أوحى إليه شئ فان كان قد أوحى إليه شئ لم يجز للنبى عليه الصلاة والسلام أن يستشير أصحابه فيه لأن مع قيام النص وظهور الوحى لا يجوز الاشتغال بالاستشارة، وإن لم يوح إليه شئ البتة لم يتوجه عليه ذنب التبة.
الثاني: أن ذلك الحكم لو كان خطأ لامر الله تعالى بنقضه، فكان يؤمر بقتل الاسرى ويرد ما أخذ منهم.
قلنا: لما لم يكن كذلك بل قال: {فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا} علمنا أنه لم يوجد الخطأ في ذلك الحكم البتة.
الثالث: أنه عليه الصلاة والسلام لم يشتغل بالاستغفار واللوم، وذلك يدل على عدم الذنب على ما تقدم.
وإذا قد بينا ذلك فنقول:
كما يأتي العتاب على ترك الواجب فقد يأتي أيضا على ترك الأولى والأولى في ذلك الوقت الاثخان وترك الفداء قطعا للاطماع وحسما للنزاع، ولولا أن ذلك من باب الأولى لما فوض النبي صلى الله عليه وآله ذلك إلى الاصحاب، وهذا هو العذر عن قوله: {ما كان لنبى أن يكون له أسرى} فأما قوله: {تريدون عرض الدنيا} فهو خطاب جمع فيصرف ذلك إلى القوم الذين رغبوا في المال.
وأما قوله: {لولا كتاب من الله} فمعناه لولا ما سبق من تحليل الغنائم لعذبتكم بسبب أخذكم هذا الفداء. وهذا غاية التقريع في تخطئتهم في أخذ الفداء من جهة التدبير.
فإن قلت: فان كان ذلك محللا لهم فما هذا التقريع البالغ؟
قلت: لأن ذلك من باب الحروب، وما كان من ذلك الباب فقد يقع الخطأ فيه من جهة التدبير ويقرع ذلك المخطئ، وان كان غير مذنب.
الشبهة الخامسة: أنه لما استأذنه قوم في التخلف عن الخروج معه إلى الجهاد فأذن لهم فقال الله تعالى: {عفا الله عنك لم أذنت لهم} والعفو لا يكون الا بعد الذنب، فدل على أنه كان مذنبا.
الجواب: أن العفو يقتضى ترك المؤاخذة، وقوله: {لم أذنت لهم} مؤاخذة. فلو أجرينا قوله تعالى: {عفا الله عنك} على ظاهره لزمت المناقضة. فعلمنا أنه ليس المراد ذلك- ما جوابك عن كلامي- مثلا انما المراد التلطف في المخاطبة. كما يقال: أنت رحمك الله وغفر لك، وإن لم يكن هناك ذنب البتة، وأيضا فهذا من باب التدبير في الحرب. وقد بينا أن تارك الافضل فيه قد يقرع ويوبخ.
الشبهة السادسة: قوله تعالى: {ووضعنا عنك وزرك} الآية صريح في الذنب.
جوابه: من وجوه:
الأول: حمله على الوزر الذي كان قبل النبوة.
الثاني: حمله على الصغيرة أو ترك الأولى.
الثالث: أن الوزر في أصل اللغة هو الثقل.
قال الله تعالى: {حتى تضع الحرب أوزارها} أي أثقالها، وإنما سمى الذنب بالوزر لأنه يثقل كاسبه. فعلى هذا تسمية الذنب بالوزر مجاز آخر، وهو أنه عليه الصلاة والسلام كان في غم شديد لاصرار قومه على الشرك، وأنه كان هو وأصحابه فيما بينهم مستضعفين فلما أعلا الله كلمته، وعظم أمره فقد وضع وزره، ويقوى هذا التأويل قوله: {ورفعنا لك ذكرك فان مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا} فان العسر بالشدائد والغموم أشبه واليسر بازالة الهموم أشبه.
فإن قلت: إن هذه السورة مكية فما ذكرت من المعنى لا يليق بها.
قلت: إن وعد الله حق، فلما وعده الله بذلك في مكة فقد قوى قلبه وزالت كربته.
الخامس: وهو أنه عليه الصلاة والسلام لا شك أنه بتقدير الاقدام على الذنب كان يتوب عنه، فان الاصرار على الذنب منفى عنه بالاجماع والتائب من الذنب كمن لا ذنب له. وإذا كان كذلك وجب علينا وعليهم تأويل هذه الآية.
الشبهة الثامنة: تمسكوا بقوله تعالى: {عبس وتولى أن جاءه الاعمى} فعاتبه على إعراضه عن ابن أم مكتوم.
جوابه: لا نسلم أن هذا الخطاب متوجه إلى النبي عليه الصلاة والسلام. لا يقال: إن أهل التفسير قالوا: الخطاب مع الرسول، لانا نقول: هذه رواية الآحاد فلا تقبل في هذه المسألة ثم إنها معارضة بأمور:
الأول: أنه وصفه بالعبوس وليس هذا من صفات النبي صلى الله عليه وسلم في قرأن ولا خبر مع الاعداء والمعاندين فضلا عن المؤمنين والمسترشدين.
الثاني: وصفه بأنه تصدى للاغنياء وتلهى عن الفُقراء وذلك غير لائق باخلاقه.
الثالث: أنه لا يجوز أن يقال للنبى {وما عليك ألا يزكى} فان هذا الاغراء يترك الحرص على ايمان قومه فلا يليق بمن بعث بالدعاء والتنبيه.
سلمنا أن الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم لكن لا نسلم كونه ذنبا، بيانه أنه تعالى وصف نبيه بحسن الخلق، فقال: {وإنك لعلى خلق عظيم}.
الشبهة السابعة: تمسكوا بقوله تعالى: {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك} قالوا: وهذا تصريح بالمغفرة.
جوابه: انا نحمله على ما قبل النبوة أو على الصغائر. ولمن اباهما تأويلات.
الأول: أن المراد ما تقدم من ذنب أمتك وما تأخر، فان الرجل المعتبر إذا أحسن بعض خدمه أو أساء فانه يقال له: أنت فعلت ذلك وإن لم يكن هو فاعله بنفسه البته.
الثاني: إذا ترك الأولى قد يسمى ذنبا كما يقال: حسنات الابرار سيئات المقربين.
الثالث: أن الذنب مصدر، ويجوز إضافته إلى الفاعل والمفعول، فكأن المراد ليغفر لاجلك وببركتك ما تقدم من ذنبهم في حقك وما تأخر.
الرابع: أن الغرض من هذه الآية علو درجة الرسول عليه الصلاة والسلام، وذلك، يحصل بقوله تعالى: لو كان لك ذنب لغفرته لك، وإخراج القضية الجازمة إلى الشرطية جائز إذا دل سياق الكلام عليه، {ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك} {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} فلما ظهر منه في بعض الاوقات النادرة خلافة عاتبه عليه عرفه أن ذلك غير مرضى منه فيكون ذلك من باب ترك الأولى ثم السبب في ذلك كما جاء في الخبر: أنه كان يتكلم مع بعض أشراف قريش ويستميله إلى الإسلام رجاء أن يعزبه الإسلام وقد كان من الحرص على إسلامهم بحيث قال الله تعالى: {فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا} فحضره هذا الاعمى ولم يعرف كيفية الحال، فسأل عن مسألة من خلال مكالمة النبي عليه الصلاة والسلام ذلك الرجل، فاشتد ذلك عليه إذا كان ذلك قطعا للكلام وإفسادا لما كان يحاوله من إسلام ذلك الرجل فأعرض عنه فنهاه الله تعالى عن ذلك، وأمره بالاقبال على كل من أتاه من شريف ووضيع وغنى وفقير بأن لا يخص بدعوته شريفا دون دنى إذ الواجب عليه هو التبليغ إلى الكل وليس عليه من امتناع من امتنع عن قبول دعوته تبعة ولا عهدة.
الشبهة التاسعة: قوله تعالى: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه} أي لا تطرد المؤمنين وطردهم كبيرة.
جوابه: ليس في الظاهر طردهم وإنما فيه النهى عن طردهم بل فيه الدلالة على أنه قال تعالى: {فتطردهم فتكون من الظالمين} ولو كان طردهم لقال فطردتهم. وحكمة النهى أن جمعا من الكفار طلبوا منه طرد الفُقراء، فأنزل الله تعالى هذه الآية لتكون حجة له عليه الصلاة والسلام عن قبول قولهم.
الشبهة العاشرة: قوله تعالى: {لقد تاب الله على النبي} والتوبة لابد أن تكون مسبوقة بذنب.
جوابه: التوبة- الرجوع- محمولة على الصغيرة أو ترك الأولى:
الشبهة الحادية عشرة: قوله تعالى: {واستغفر لذنبك} وفى الحديث: «وإنى لاستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة» وهذا صريح.
جوابه: أنه محمول إما على الصغيرة أو ترك الأولى أو التواضع كما قررناه في قول آدم {ربنا ظلمنا أنفسنا} أو على التقدير، والمعنى إذا أذنبت فاستغفره كقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا} وليس يريد أن جميعهم مذنبون، وإنما بعثهم على التوبة إذا أذنبوا.
الشبهة الثانية عشرة: قوله تعالى: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك} الآية ظاهرها مشعر بأنه فعل ما لا يجوز.
جوابه: أن تحريم ما أحل الله ليس بذنب بدليل الطلاق والعتاق، وأما العتاب فان النهى عن فعل ذلك لابتغاء مرضاة النساء أو ليكون زجرا لهن عن مطالبته مثل ذلك كما يقول القائل لغيره: لم قبلت أمر فلان واقتديت به وهو دونك، وآثرت رضاه وهو عبدك، فليس هذا عتبا ذنب وإنما هو عتاب تشريف.
الشبهة الثالثة عشر: قوله تعالى: {يا أيها النبي اتق الله} {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك فان لم تفعل فما بلغت رسالته} فلو لم يوجد منه فعل المحظور والاخلال بالواجب لم يكن للامر والنهى فائدة.
جوابه: الأمر والنهى أحد أسباب العصمة فوجودهما لا يخل بها.
الشبهة الرابعة عشر: قوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين} فلو لم يصح ذلك منه لما خوطب به.
جوابه: من وجوه:
الأول: أن المراد أمته فقد روى عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: «نزل القرآن بإياك أعنى واسمعي يا جارة» ومثله قوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء} الآية فقوله: {فطلقوهن} يدل على أن الخطاب توجه إلى غيره.
الثاني: حمله على الشرك الخفى الذي هو الالتفات إلى غير الله تعالى.
الثالث: أنه شرح الحال بتقدير الوقوع كما في قوله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا}.
الشبهة الخامسة عشر: قوله تعالى: {سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله} والاستثناء يدل على جواز النسيان في الوحى.
جوابه: أن النسيان يجئ بمعنى الترك قال الله تعالى: {فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا} {كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى} فقوله: {سنقرؤك فلا تنسى} أي فلا تترك منها شيئا إلا ما شاء الله وهو المندوب أو المنسوخ.
الشبهة السادسة عشر: {فان كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين} قالوا فكان النبي صلى الله عليه وسلم في شك مما أوحى الله إليه، وإلا فأى فائدة في أمره بالسؤال.
جوابه: القضية الشرطية لا تفيد إلا ترتيب الجواب على الشرط فأما أن الشرط حاصل أو لا فهو غير مستفاد فأما الرجوع إلى اليهود والنصارى فلوجهين:
الأول: أن نعت النبي صلى الله عليه وسلم كان مندوبا في كتبهم مذكورا في التوراة والانجيل فكان يظهر بعضهم ذلك وإن كتمه الباقون، وكان ذلك من أعظم الدلائل على صدقه، فأمره الله تعالى بالرجوع وتعرف ما شهدت به الكتب السماوية من نعته وصفته، ليكون أقوى معين له في إزالة الشبهة وتقوية العلم.
الثاني: أن الله تعالى أمره أن يرجع إليهم في كيفية ثبوت نبوة سائر الأنبياء، حتى يزول الوسواس في كونه نبيا لأنه امر أن يأتي بمثل ما أتى به من قبله من المعجزات.
جواب آخر: عن أصل الكلام، وهو أن الخطاب وإن كان متوجها إلى النبي صلى الله عليه وآله يجوز أن لا يكون المراد منه هو.
الشبهة السابعة عشر: قوله تعالى: {وإن كادوا ليفتنونك} الآيتان قالوا وكان معناه قارب فدل ذلك على أنه عليه السلام قارب الكذب ومال إليه.
جوابه: لعله قارب ذلك بحسب الطبيعة البشرية، لا بحسب العقل والدين.
فصل آخر:
فيما تمسكوا به في إثبات الذنب لا لنبى معين.
الشبهة الأولى: قوله تعالى: {ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم} فهذا يقتضى ثبوت الظلم لكل الناس والنبى صلى الله عليه وسلم من الناس فثبت الظلم له.
جوابه: إذا تمسكت بهذا العموم في إثبات الظلم فقوله تعالى: {ألا لعنة الله على الظالمين} يوجب جواز اللعن عليهم وجل منصب الأنبياء عنه.
فإن قلت: بتخصيص العموم هناك قلت به هاهنا.
الشبهة الثانية: قوله تعالى: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا} إلى آخر السورة قالوا: فلولا الخوف من وقوع تخليط الوحى من جهة الأنبياء لم يكن في الاستظهار بالرصد المرسل معهم فائدة.
جوابه: يجوز أن بعثه الملائكة مع الأنبياء ليس للخوف من تغيير الأنبياء وتبديلهم لكن لمنع الشيطان من إيقاع تخليط في أداء الرسول، كما قررناه في قوله تعالى: {إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته}.
الشبهة الثالثة: تمسكوا بقوله تعالى: {واتل عليهم نبأ الذي اتيناه آياتنا فانسلخ منها} الآية وزعموا أنها نزلت في نبى عزل عن نبوته.
جوابه: ليس في الآية ما يدل على كون ذلك المذكور نبيا، والاعتماد فيه على أخبار الآحاد غير جائز، والله أعلم بالصواب. اهـ.